فضائح محاسبية ورهانات خاسرة.. القصة الكاملة لسقوط عملاق الصناعة اليابانية«توشيبا»
شكلت «توشيبا» رمزًا للثقة والتقدم التكنولوجي الياباني، على مدى العديد من السنوات، ولكنها وصلت فى النهاية إلى التفكك والبيع والخروج من البورصة، بعد أن كان في يومٍ ما تاج الصناعة في الشرق الأقصى. فاما هو السبب وراء انهيارها وكيف ما زالت منتجات «توشيبا» موجودة في الأسواق رغم ذلك حتى الأن ؟
بداية التأسيسي
تأسست شركة توشيبا عام 1939 نتيجة اندماج شركتين من أكبر الكيانات الهندسية في اليابان، لتبدأ رحلة صعود مذهلة في عالم التكنولوجيا. خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت توشيبا أحد أعمدة الصناعة اليابانية، واسمًا حاضرًا في كل بيت، من أجهزة التلفزيون ومسجلات الفيديو ومكيفات الهواء، وصولًا إلى المعدات الطبية، والبنية التحتية، وأشباه الموصلات.

و بلغت توشيبا قمة مجدها في الثمانينيات، وتحديدًا عام 1985، عندما كشفت عن جهاز T1100، أول كمبيوتر محمول يُطرح على نطاق تجاري واسع بمواصفات قريبة من أجهزة الكمبيوتر المكتبية. ومن هنا، تحولت توشيبا إلى لاعب عالمي رئيسي في سوق الحواسيب المحمولة، واستحوذت في عام 2007 وحده على نحو 17.8% من مبيعات أجهزة الكمبيوتر في متاجر التجزئة بالولايات المتحدة،
وجرى تقسيم الشركة إلى أربع مجموعات أعمال رئيسية: مجموعة المنتجات الرقمية، ومجموعة الأجهزة الإلكترونية، ومجموعة الأجهزة المنزلية، والبنية التحتية الاجتماعية Gr، و لكن هذا الصعود الكبير لم يدم طويلًا.
بداية السقوط و الفضائح المحاسبية
و في عام 2015، بدات بوادر السقوط بالشركة فقد استقال الرئيس التنفيذي للشركة آنذاك هيساو تاناكا، إلى جانب ثمانية من كبار المديرين، بعد أن كشفت هيئة الرقابة المالية اليابانية عن تلاعب ممنهج في النتائج المالية.
واظهرت التحقيقات أن توشيبا ضخّمت أرباحها التشغيلية بنحو 1.2 مليار دولار عبر أرقام وهمية، بهدف دعم سعر السهم في البورصة، خاصة بعد تراجع المبيعات خلال عامي 2013 و2014. ولم تكن المخالفات محصورة في وحدة واحدة، بل امتدت إلى قطاعات عدة، من المنتجات البصرية والحواسيب إلى أشباه الموصلات.
و الأخطر أن هذه الممارسات لم تكن استثناءً، بل سياسة متواجدة منذ عام 2008، في ظل الأزمة المالية العالمية، واستمرت عبر أكثر من إدارة تنفيذية، حيث دفعت ثقافة الشركة القائمة على الطاعة العمياء للرؤساء، وفرض أهداف ربحية شبه مستحيلة، المديرين والمحاسبين لاستخدام أساليب محاسبية غير قانونية لتجنب الاعتراف بالفشل.

و لم تتوقف أزمات توشيبا عند الفضائح المحاسبية، ففي عام 2006، قررت الشركة الرهان على مستقبل الطاقة النووية، واستحوذت على 77% من شركة «وستنغهاوس» الأمريكية المتخصصة في المفاعلات النووية، في صفقة ضخمة تجاوزت 4.5 مليار دولار.
و بدت الصفقة آنذاك واعدة، خاصة مع الحوافز الأمريكية للطاقة النووية، لكن الأحداث جاءت عكس التوقعات. ففي عام 2011، ضرب زلزال وتسونامي مدمران اليابان، وأدّيا إلى كارثة فوكوشيما النووية، ما تسبب في حالة رعب عالمية من الطاقة النووية، وإغلاق عشرات المفاعلات في اليابان وألمانيا.
وادى ذلك إلى تقلّص السوق، واشتدت المنافسة، وتعثر مشروع وستنغهاوس لبناء أربعة مفاعلات جديدة في الولايات المتحدة بعد انسحاب شركة المقاولات الشريكة.
وأعلنت وستنغهاوس في مارس 2017، إفلاسها بعد خسائر ضخمة، لتتحول صفقة الأحلام إلى كابوس أنهك ميزانية توشيبا.
بيع الأصول وبداية الأنهيار
لم تجد توشيبا امام كل هذه الخسائر مفرا من تفكيك نفسها، و بدأت سياسة البيع في عام 2016، عندما باعت قسم الأجهزة المنزلية إلى شركة ميديا جروب الصينية، التي باتت تصنع المنتجات وتبيعها تحت اسم توشيبا.
و توالت بعد ذلك عمليات التخارج واخدة تلو الاخرة ، حيث تم بيع قسم الأجهزة الطبية لشركة كانون
، ومن ثم قسم التلفزيونات لشركة هايسنس الصينية و نشاط الحواسيب المحمولة لشركة شارب، كما تم بيع 60% من وحدة الذاكرة (NAND Flash)، جوهرة تاج الشركة، رغم كونها ثاني أكبر منتج عالميًا وهكذا، بقيت الأسماء كما ولكن اختفت توشيبا .
الخروج من البورصة
لم تتوقف محاولات إنقاذ توشيبا عند بيع القطاعات، بل عُرضت الشركة الأم نفسها للبيع أكثر من مرة وفي أغسطس 2023، قُدمت الصفقة الحاسمة عندما عرض تحالف استثماري ياباني الاستحواذ على توشيبا مقابل نحو 15.3 مليار دولار، تمهيدًا لتحويلها إلى شركة خاصة وشطبها من بورصة طوكيو.
بهذه الخطوة، تم إنتهاء واحدة من أكبر قصص النجاح والفشل في تاريخ الصناعة اليابانية.
و لم تسقط توشيبا بسبب التكنولوجيا، ولا نقص الابتكار، بل بسبب سوء الحوكمة، وثقافة إدارية خانقة، ورهانات استراتيجية خاطئة. قصة توشيبا لم تعد مجرد حكاية شركة فشلت، بل تحولت إلى درس عالمي عن كيف يمكن للإمبراطوريات الصناعية أن تنهار من الداخل حتى وهي في قمة المجد.